كان نحو 20 شخصا يلتفون حول طاولات خشبية ويدفئون أيديهم بأكواب القهوة الساخنة التي يتصاعد منها البخار مع البسكويت المصنوع في المنزل فيما يشبه أي تجمع صباحي آخر في صبيحة يوم الأحد بنيويورك.
ولكن أعضاء هذه الجماعة تحدوا الثلوج التي تصل إلى الركبتين كي يجلسوا ويتحدثوا حول بعض الأفكار الجديدة. وعندما قدموا أنفسهم، بدا الكشف وكأنه قائمة مختصرة للشركات الإلكترونية الجديدة: موقع «فورسكوير» الاجتماعي، موقع «هوت بوتيتو» و«سيكس أبارت» و«فلكر» و«فلافوربيل» و«تراست آرت» و«فيميو».
فتقول دوروثي ماكجيفني الموظفة السابقة بـ«غوغل» التي تعمل كمنسق لهذه المجموعة «نورث بروكلين بيركفاست كلاب»، والتي تدير كذلك «جونتيتر» وهو موقع حول السفر والسياحة موجه للنساء: «هناك الكثير الذي يحدث هنا في منطقتنا الجغرافية». وعلى غرار غيرها، فإنها جاءت إلى مأدبة الإفطار للمساعدة على تعزيز نمو المشروعات الصغيرة في مجتمعها المحلي.
وكان لقاء الجماعة الافتتاحي في يناير (كانون الثاني) الماضي، وهو ضمن عدد متنامٍ من الاجتماعات غير الرسمية لصناعات التكنولوجيا المحلية ووسائل الإعلان. وقد جذبت فعاليات تجمع شهري آخر يحمل اسم «نيويورك تيك ميت آب» عقد في تشيلسي نحو 700 من المتحمسين للتكنولوجيا.
وتعد الضجة التي ثارت حول تلك التجمعات من أحدث الدلائل على عودة الحياة مرة أخرى للاقتصاد المرتبط بصناعة الإنترنت في نيويورك بعد عقد من ثورة «الدوت كوم».
فيقول تشارلي أودونيل، أحد المستثمرين بمنطقة «فيرست راوند كابيتال» التي عينته مؤخرا عندما فتحت مكتبا جديدا في مانهاتن: «بعد الأزمة، كانت نيويورك أرضا قاحلة من الموارد والشركات غير المستغلة».
ومنذ ذلك الحين، «نشأت تلك التجمعات. وقد أصبح لدينا الآن كتلة كبيرة بالغة الأهمية من المؤيدين والممولين».
وكانت الصناعات التي تحظى بالاهتمام هنا مثل صناعات الإعلانات وول ستريت تطغى على القطاع التكنولوجي، وجاء انفجار «الدوت كوم» ليعزز تلك الحقيقة. وذلك حيث إن التكنولوجيا التي كانت قد بدأت تستحوذ على الاهتمام، شهدت تراجعا ملحوظا في نهاية التسعينات، بعد ظهور عشرات من شركات الإنترنت، وارتفعت معدلات التسريح من العمل وسحب المستثمرون استثماراتهم إلى قطاعات أخرى.
وخلال فترة الازدهار الإلكترونية، وفقا لأوين دايفيس المدير الإداري لشركة «إن واي سي سيد» فإن «الرأسماليين كانوا يدفعون بسخاء في مقابل أي فكرة تتعلق بالإنترنت دون إلقاء نظرة نقدية حول النماذج والأفكار المطروحة».
وأضاف دايفيس أنه منذ ذلك الحين، كانت صناعة التكنولوجيا تعمل بثبات على استعادة نشاطها بنيويورك، وأنها تمكنت من تعزيز وضعها على الرغم من الأزمة الاقتصادية التي حاصرت صناعات أخرى.
ومن جهة أخرى، يقول ديل جورجنسون، أستاذ الاقتصاد بهارفارد، إن المساعدة في إعطاء نيويورك قصب السبق في ذلك المجال يعد تحولا جوهريا في نوعية الأفكار التي تحرك صناعة التكنولوجيا، حيث إن البنية التحتية لاتصالات الهواتف الجوالة والحواسيب أصبحت متوافرة، وبالتالي فإن الفرص القادمة سوف تعتمد على تطوير خدمات جديدة باستخدام تلك التقنيات. فيقول: «فسيصبحون سبب الازدهار الجديد الذي سوف تشهده هذه الصناعة».
وبالطبع، يمكن توفير الخدمات في أي مكان، ولكن نظرا لأن الكثير من الصناعات التي تواجه صراعا مع الإنترنت تتمركز في نيويورك، تحاول المدينة أن تتخذ خطوات راسخة بين أقرانها كمركز تكنولوجي مزدهر.
فتقول آنا لي ساكسنيان الأستاذة بجامعة كاليفورنيا ببركلي التي تدرس الاقتصادات الإقليمية ومشروعات التكنولوجيا: «نشر الكتب، والإعلان، ووسائل الإعلام بل حتى صناعة الموضة كلها تتمركز في نيويورك. وهذه هي الصناعات الرئيسية التي ساهمت التكنولوجيا والإنترنت في إعادة تشكيلها».
ولكي نحصل على رؤية واضحة للجيل الجديد من الابتكارات الإلكترونية، فإن المرء ليس بحاجة إلى أكثر من إلقاء نظرة على المحفظة الاستثمارية لفريد ويلسون، أحد المساهمين في تأسيس «يونيون سكوير فينشر» وأحد القوى النافذة في مشهد المشروعات الناشئة في نيويورك، التي تشتمل على قائمة من المواقع الإلكترونية المفضلة: «بوكسي» وهو البرنامج الذي ينقل ملفات الفيديو من الإنترنت لعرضها على التلفزيون، و«تامبلر» وهو برنامج للمدونات المصغرة، و«فورسكوير» وهو شبكة اجتماعية على الهواتف الجوالة.
فيقول ويلسون: «لقد تحولت صناعة البرمجيات إلى صناعة الإنترنت. قبل 10 أعوام كان نحو 80% من البرامج يتم تصميمها لخدمة المشروعات. أما الآن، فيتم ابتكارها لخدمة المستهلكين، كما أنها أصبحت ترتكز على وسائل الإعلام أكثر من أي وقت مضى. وتاريخيا كانت هذه هي أقوى القطاعات بنيويورك».
ومن جهتهم، يقول أنصار استمرار التطوير بنيويورك كمركز للتجديد الإلكتروني، إن حفز الصناعات المزدهرة على التجديد يساعد على جذب الشركات إلى هذه المجالات.
ومن جهة أخرى، يدرك كيفين رايان الرئيس التنفيذي السابق لشركة الإعلانات «دوبل كليك»، ومؤسس شركة «غليت غروبيه»، الموقع الإلكتروني الذي ما زال يقدم خصومات على البضائع الفاخرة، أهمية الوصول إلى المستهلكين المحتملين الموجودين على مقربة منه. فيقول: «نحن بحاجة إلى أن نظل هنا لأن الناس الذين نستعين بهم يأتون من (ساكس) و(دولشي أند غابانا) وهم جميعا في نيويورك».
ومما لا شك فيه، فإن نيويورك لا تقل عن نظيراتها بويست كوست، فتقول ساكنيان: «لقد كان وادي السليكون يقود دائما التقدم ولكنه يمر بفترات ازدهار وفترات كساد كأي مكان آخر». وتضيف ساكنيان إنه مع ذلك «فإنه لدى نيويورك في هذه اللحظة فرصة حقيقية للنجاح».
ووفقا للمستثمرين ورجال الأعمال، فإن تزايد الشركات الاستثمارية الصغيرة وحاضنات الأعمال يساعد على دفع نيويورك إلى النهوض مرة أخرى.
ومن جهة أخرى، خصص بن ليرير أحد مؤسسي «ثريليست» - الرسائل الإخبارية الإلكترونية التي تستهدف الرجال المعاصرين - 7 ملايبن دولار لإحدى الشركات الاستثمارية التي يديرها مع أبيه (كينيث). ويخطط الرجلان لأن يضعا نحو 25 استثمارا في شركات التكنولوجيا الناشئة خلال العام الحالي، سوف يتمركز 80% منها في نيويورك.
جدير بالذكر، أن ليرير الأب هو أحد مؤسسي «هافينغتون بوست». كما أنه أحد المستثمرين في «بيتاوركس»، الذي ساعد نحو 25 شركة منذ أن بدأت عام 2007 بما فيها شركة «أونلاين تولز بيتلي» و«تويتديك».
ويضيف إلى ذلك الزخم، النقد الذي يتدفق من الشركات الاستثمارية الكبرى التي تتمركز في أماكن أخرى.
فيقول رون كونواي، أحد الرأسماليين، الذي كان أحد المستثمرين الأوائل بـ«غوغل» و«تويتر»، و«فيس بوك»، و«زابوس» إن صندوقه الاستثماري يشتمل على 25 استثمارا بنيويورك وهو ما يعادل 20% من محفظته تقريبا.
ويقول الخبراء، إن هناك إشارة واعدة أخرى تتمثل في عدد الشركات داخل نيويورك التي جذبت المستثمرين. وحسب ما أفادت به الرابطة الوطنية لرأس المال الاستثماري، تمت 247 صفقة استثمارية تبلغ قيمتها 1.4 مليار دولار داخل نيويورك خلال 2009، على الرغم من الركود والسوق التي تعاني من الصعوبات.
ولا تزال نيويورك في المرتبة الثالثة عقب وادي السليكون وبوسطن من ناحية عدد الصفقات ومعدلات الاستثمار الإجمالية، حسب ما تقول إيميلي ميندل، نائبة رئيس الرابطة للشؤون الاستراتيجية. وتضيف: «ولكن لا تزال نيويورك تحتفظ بأشياء تميزها بالمقارنة مع المراكز الكبرى الأخرى ويحتمل أن تزيد من حصتها».
ولفترة طويلة كانت الكليات والجامعات عنصرا مساعدا على تعزيز أحلام رجال الأعمال. ومن الركائز الأولى للإبداع في وادي السيلكون كان عميد كلية الهندسة في ستانفورد فريدريك تيرمان، الذي يعتبر الجامعة محضنا لصناعة الإلكترونيات. وفي وقت قريب، نشأ «فيس بوك» داخل مهجع طلاب هارفارد ونفذ «غوغل» في بادئ الأمر إلى رأسي اثنين من خريجي ستانفورد.
وأملا في تكرار أشكال النجاح هذه، تتعاون كليات داخل نيويورك بصورة متنامية مع شركات محلية ناشئة. ويُحضر كريس ويغينز، أستاذ الرياضيات التطبيقية في جامعة كولومبيا، مؤسسي الشركات الناشئة بصورة منتظمة إلى الحرم الجامعي ليتحدثوا مع الطلاب عن الوظائف المتاحة في مجال التقنية، ويعمل حاليا على تأسيس برنامج تدريب داخل الكلية.
وتوجد علاقات قوية بين شركة «إن واي سي سيد» ومعهد البوليتينيك التابع لجامعة نيويورك من أجل مساعدة الطلاب على تحويل أفكارهم إلى مشاريع تهدف إلى تحقيق أرباح.
ومن الأماكن الأكثر إثارة داخل المدينة، مراكز التقنية التي تشرف على الشركات الصغيرة. ومن الأمثلة على ذلك، فرع معامل «دوغباتش لابس» الجديد داخل مانهاتن، الذي تدعمه شركة «بولاريز فينتشر بارتنرز» وهي شركة استثمارية بمنطقة بوسطن.
وتقدم «دوغباتش»، التي افتتحت في يناير، إلى الشركات الناشئة مكانا للعمل بلا إيجار لعدة أشهر مع احتمالية ضمان استثمار في المستقبل.
ويقول بيتر فلينت، الشريك في «بولارز» الذي يقضي الكثير من الأيام كل أسبوع في مكتب نيويورك: «يطلق عليه كلية خبراء الكومبيوتر.» ويضيف: «يوجد مقدار كبير الإثارة والاهتمام داخل نيويورك، وإذا كنا نستطيع إقناع المستثمرين بالتفكير في البقاء داخل نيويورك مقابل الذهاب إلى وادي السيلكون فإن ذلك فوز كبير».
وفي الوقت الحالي، توجد 13 شركة في المنطقة من بينها «بوستلينغ»، أحدث ثمرة لمؤسسي «إتسي» وموظفيها الأوائل. ويقول السكان المحليون، إن «إتسي»، وهو متجر تسوق إلكتروني متخصص في الأشياء المصنوعة يدويا، يمثل إحدى قصص النجاح الناشئة اللامعة داخل نيويورك، بالإضافة إلى «دبل كليك» و«ذي لادرز»، وهو موقع للبحث عن وظائف و«جيلت غروب».
ويقول مستثمرون وخبراء في الصناعة، إن نيويورك تلي وادي السيلكون تاريخيا في شبكة المدربين ذوي الخبرة والمستثمرين الذين يساعدون على رعاية المستثمرين الشباب. وتقول كاترينا فيك: «ما نحتاج في نيويورك هي مافيا (باي بيل)»، في إشارة إلى مجموعة من الموظفين الأوائل داخل «باي بيل» في مدينة بالو ألتو الذين قاموا بتأسيس مشاريع ناجحة بعد بيع شركة التجارة الإلكترونية إلى «إي باي» في 2002.